فصل: قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإيقاع الأخير:
{قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليَّ ربي إنه سميع قريب}.
فلا عليكم إذن إن ضللت. فإنما أضل على نفسي. وإن كنت مهتديًا فإن الله هو الذي هداني بوحيه، لا املك لنفسي منه شيئًا إلا بإذنه. وأنا تحت مشيئته أسير فضله.
{إنه سميع قريب}.
وهكذا كانوا يجدون الله. هكذا كانوا يجدون صفاته هذه في نفوسهم. كانوا يجدونها رطبة بالحياة الحقيقية. كانوا يحسون أن الله يسمع لهم وهو قريب منهم. وأنه معنى بأمرهم عناية مباشرة؛ وأن شكواهم ونجواهم تصل إليه بلا واسطة. وأنه لا يهملها ولا يكلها إلى سواه. ومن ثم كانوا يعيشون في أنس بربهم. في كنفه. في جواره. في عطفه. في رعايته. ويجدون هذا كله في نفوسهم حيًا، واقعًا، بسيطًا، وليس معنى ولا فكرة ولا مجرد تمثيل وتقريب.
{إنه سميع قريب}.
وأخيرًا يجيء الختام في مشهد من مشاهد القيامة حافل بالحركة العنيفة المترددة بين الدنيا والأخرى. كأنما هو مجال واحد، وهم كرة يتقاذفها السياق في المشهد السريع العنيف:
{ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب}.
{ولو ترى} فالمشهد معروض للأنظار.
{إذ فزعوا} من الهول الذي فوجئوا به. وكأنما أرادوا الإفلات {فلا فوت}ولا إفلات {وأخذوا من مكان قريب}.. ولم يبعدوا في محاولتهم البائسة وحركتهم المذهولة.
{وقالوا آمنا به}.. الآن بعد فوات الأوان.. {وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد}وكيف يتناولون الإيمان من مكانهم هذا. ومكان الإيمان بعيد عنهم فقد كان ذلك في الدنيا، فضيعوه!
{وقد كفروا به من قبل}. فانتهى الأمر، ولم يعد لهم أن يحاولوه اليوم!
{ويقذفون بالغيب من مكان بعيد}.. ذلك حين أنكروا هذا اليوم، وهو غيب كان، فلم يكن لهم على إنكاره من دليل، إنما كانوا يقذفون بالغيب من مكان بعيد. واليوم يحاولون تناول الإيمان به من مكان كذلك بعيد!
{وحيل بينهم وبين ما يشتهون}.. من الإيمان في غير موعده، والإفلات من العذاب الذي يشهدونه، والنجاة من الخطر الذي يواجهونه.
{كما فعل بأشياعهم من قبل}. ممن أخذهم الله، فطلبوا النجاة بعد نفاذ الأمر، وبعد أن لم يعد منه مفر.
{إنهم كانوا في شك مريب}.. فها هو ذا اليقين بعد الشك المريب!
وهكذا تختم السورة في هذا الإيقاع السريع العنيف الشديد. وتختم بمشهد من مشاهد القيامة؛ يثبت القضية التي عليها التركيز والتوكيد في السورة. كما مضى في نهاية كل شوط فيها وفي ثناياها. وقد بدأت السورة بهذه القضية وختمت بها هذا الختام العنيف. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94].
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه أهلك الأمم الماضية لما كذّبَتْ رُسُلَه، وأنّ الأمم الماضية أقوى، وأكثر أموالًا وأولادًا، وأنّ كفّار مكّة عليهم أن يخافوا من إهلاك الله لهم بسبب تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم، ولم يؤتوا: أي كفار مكّة معشار ما أتى الله الأمم التي أهلكها من قبل من القوّة، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرض} [غافر: 82] وقد قدّمنا بعض الكلام على هذا في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى: {وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9].
قوله تعالى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المؤمنون في الكلام على قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70].
قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}.
قد قدّمنا الآيات الموضحة له في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29].
{قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
قوله تعالى: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}.
قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث} [الأنبياء: 78] في معرض بيان حجج الظاهرية في دعواهم منع الاجتهاد.
{وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)}.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنّ الكفار يوم القيامة يؤمنون بالله، وأنّ ذلك الإيمان لا ينفعهم لفوات وقت نفعه، الذي هو مدة دار الدنيا جاء موضحًا في آيات كثيرة.
وقد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق} [الأعراف: 53] الآية. وفي سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [مريم: 38]، وفي غير ذلك من المواضع. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} أنَّى تدل على كمال الاستبعاد هنا، والتناوش: التناول، وقال بعضهم: هو خصوص التناول السهل للشيء القريب.
والمعنى: أنه يستبعد كلّ الاستبعاد ويبعد كل البعد، أن يتناول الكفار الإيمان النافع في الآخرة بعد ما ضيّعوا ذلك وقت إمكانه في دار الدنيا، وقيل الاستبعاد لردّهم إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا، والأول أظهر، ويدل عليه قوله قبله: {وقالوا آمَنَّا بِهِ} ومن أراد تناول شيء من مكان بعيد لا يمكنه ذلك. والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

قال تعالى: {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ}.
بعد هذا التهديد الذي أنذر به المشركون من أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين قبلهم- جاءت آيات اللّه تدعوهم إلى ما هو خير لهم، وتفتح لهم الطريق إلى النجاة والخلا.
والآية الكريمة، تكشف عن أسلوب الدعوة الإسلامية، القائم على مواجهة العقل، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، وإعطائه حقه في طلب الدليل المقنع، والبرهان الواضح، ثم الاعتراف له بما يقضى به، بعد النظر السليم، المجرد من الهوى، المبرأ من التحدي والعناد..! فهذه هي رسالة الإسلام في الإنسانية.. إنها تريد أولا وقبل كل شىء، أن تحرر العقل من العادات الفاسدة، والمعتقدات الباطلة، التي استولت عليه، وشلّت إرادة التفكير في.
فإذا تحرر العقل من هذه الآفات، وتخلص من تلك القيود، فقد كسب نصف المعركة في صراعه مع الباطل، ثم كان عليه بعد هذا أن يكسب النصف الآخر، حتى يتلخص من الضلال، ويخرج من عالم الظلام إلى عالم الهدى والنور.. وهو أن يدير عقله على هذا الوجود، وأن ينظر فيه بعقله المتحرر هذا.. فإنه إن فعل، فلابد أن يهتدى إلى اللّه، ويتعرف إليه، ويؤمن به.
فقال تعالى: {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ} أي إنما أنصح لكم بنصيحة واحدة، لا شيء غيرها.. إنها مجرد نصح، لا إلزام فيه، فإن قبلتم فذلك لكم، وهو حظكم، وإن لم تقبلوا فأنتم وشأنك.
والعظة الواحدة، هى: {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}.
والقيام للّه، هو القصد، والتوجه إليه، وذلك بطلب البحث عنه بحثا جادّا.. فإن الإنسان الذي يريد أن يتخذ له معبودا يعبده، يجب أن يتعرف إليه، وأن يتحقق من آثاره وأفعاله، وما له من سلطان في هذا الوجو.
ثم لا يقبل المعبود حتى يراه المالك لكل شىء، المنصرف في كل شىء، والقيام للّه مثنى وفرادى، هو أن يكون التفكير في اللّه، حديثا إلى النفس أولا، بما يقع فيها من خواطر عن اللّه.. ثم مراجعة هذه الخواطر مع شخص آخر، يراه الإنسان صاحب نظر ورأى، حتى يستقيم له من تلك المراجعة، وتقليب الرأى بينه وبين صاحبه هذا- مفهوم لذات اللّه، وحتى يجتمع له تصور لعظمته وجلاله وقدرته، ثم تكون المرحلة الثالثة والأخيرة، وهى الرجوع إلى نفسه، وعرض هذا المفهوم وذلك التصور على عقله، حتى يهتدى إلى الرأى الذي يطمئن إليه، والتصور الذي يستريج ل.
هذه هي مراحل التفكير، في أي أمر ذى شأن بعرض للإنسا.
ففى المرحلة الأولى تظهر الفكرة في صورة خاطرة أو وساوسة، يلوح في سماء العقل، ويضطرب في مخيلت.
ومثل هذا الخاطر أو الوسواس، يعيش قلقا مضطربا، لا يجد له مستقرا في العقل، حتى يجد الأرض الصلبة التي يقف عليها.. وهنا تجىء المرحلة الثاني.
وفى المرحلة الثانية هذه، يبحث العقل عن عقل آخر يأنس به، ويقابل ما عنده من خواطر ووساوس بخواطره ووساوس.
وفى هذا اللقاء بين العقلين، يكثر الأخذ والرد، والقبول والرفض، ثم ينجلى هذا المخض عن زبدة، هي الشرارة التي تنقدح من اللقاء بين العقلين، والتي تضىء بها جوانب النفس، وينكشف على ضوئها وجه الرأى في الأمر المتداول بينهما.. وينتهى هذا الحوار، أو هذا اللقاء بين العقول، وقد ذهب كل واحد منها بما حصل عليه، من شك أو يقين.. وعندئذ يجد العقل أن ما حصل عليه ليس خالصا له، وإنما هو- على صورتى الشك واليقين- قسمة بينه وبين العقل الذي جرى معه هذا الشوط للوصول إلى تلك الغاي.
وهنا تجىء المرحلة الثالثة، التي يسوى فيها العقل حساب الأمر الذي بين يديه، على الوجه الذي يراه هو، مستقلا عن أي عون خارج.
وفى المرحلة الثالثة هذه، يخلو العقل بنفسه، ما شاء له أن يخلو، فيعيد عرض الأمر في هدوء، ويقلب وجوهه في سعة من الوقت، وحرية من العم.
وقد يظل هكذا زمنا يبلغ عمر الإنسان كله، دون أن يصل إلى الرأى الذي يطمئن إليه، وقد تطلع عليه شمس الحقيقة في لحظة خاطفة، وعلى غير انتظار! هذا، ويلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم- أن الآية الكريمة، لم تذكر المرحلة الأولى وبدأت بالمرحلة الثانية، وهى لقاء عقل الإنسان بعقل غيره، ومقابلة تفكيره بتفكير غيره وذلك، أن المرحلة الأولى، هي مرحلة مشتركة في الناس جميعا، فإن أي إنسان عاقل، لا يمكن أبدا أن تخلو نفسه من خواطر، ووساوس، عن التفكير في الإله.. أما الذي هو غير واقع في الناس جميعا، فهو عرض هذه الخواطر والوساوس على عقول الآخري.
فهناك كثير من الناس يعيشون مع ما يطرقهم من خواطر ووساوس، دون أن يعرضوها على أحد، بل يمسكون بها في صدورهم حتى يموتوا بها، تماما كما يمسك بعض المرضى، بأمراضهم، دون أن يطبّوا لها، وأن يعرضوها على أهل الذكر والمعرفة بأدواء الأجسام وعلله.
كما يلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم أيضا- أن الآية الكريمة حصرت التفكير في دائرة الفرد نفسه، ثم لم تتجاوز به أكثر من فرد وفرد.. وهذا يعنى أن العقل إنما يكون في أحسن حالاته، حين يفكر وحده، أي حين ينفرد بالتفكير فيما تجمّع لديه من حصيلة من الأفكار والآراء، يردّها إلى نفسه، ويقلبها بين يديه.. فهذا الذي يحقق للعقل ذاتيته، ويعطيه وجوده، ويمكن له من سلطانه.. فإذا كان ولابد من مشاركة أحد، فليكن ذلك في أضيق الحدود، ومع عقل آخر، هو أشبه بالمرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته.. أما التفكير الجماعى، وخاصة في أمر يتصل بالضمير، كالإيمان باللّه واليوم الآخر، فإنه يشوش على العقل، ويحجب عنه الرؤية الصحيحة لما هو ناظر إلي.
وقد كشف علم النفس، عن أن هناك عقلين، عقلا فرديا، وعقلا جماعيا، وأن العقل الجماعى، قد يقنع الإنسان بما لم يكن محلّ إقناع في تفكيره الفردى.. وهذا إن صحّ في الأمور العارضة، فإنه لا يصحّ في أمر العقيدة، التي هي أمر شخصى مح.
وقال تعالى: {ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ}.
هذا هو الحكم الذي يصل إليه العقل، إذا جرى على هذا الأسلوب الذي دعى إليه، من التفكير في هذا الأمر الذي يدعو الرسول إليه، تفكيرا قائما على البحث الجادّ، والرغبة الصادقة في الكشف عن الحقيقة.. إنه لو أخذ الإنسان- أي إنسان- بتلك العظة التي دعا القرآن إليها، وهى أن يقوم للّه مفكرا وحده، أو مع غيره- لوصل إلى تلك الحقيقة، وهى أن هذا الرسول ليس به جنّة، وأن ما يدعو إليه هو الحقّ.. وأنه رسول اللّه، ونذير لهم بين يدى عذاب شديد، هو عذاب يوم القيام.
قال تعالى: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وهذه مادة من مواد التفكير، في سبيل البحث عن الحقيقة التي يدعو إليها الرسول عقل ذوى العقل، فهذه المادة مما تعين على الكشف عن الحقيقة والتهدّى إليها.. وتلك المادة هي أن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه.. لم يطلب أجرا من أحد على ما يدعو إليه، وأنه لم يطلب بذلك جاها أو سلطانا: {ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}! حتى أكون بموضع تهمة، بأننى إنما أدعو إلى ما أدعو إليه، ابتغاء كسب مادىّ لذات نفسى.. إنها دعوة بريئة من كل غرض شخصى، خالصة من كل مئونة تحملونها من أجله.
فماذا يحجزكم عنها، أو يحملكم على التصدّى لها، والوقوف في وجهها؟
وقال تعالى: {فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} أي إن يكن هناك أجر وخير في هذه الدعوة، فهو لكم.. أمّا أنا، فإن أجرى على اللّ.
فأنا أحمل رسالته إليكم خالصة، ولا آخذ منكم على هذا الحمل أجرا، وإنما أجرى على الذي حملنى رسالت.
ويجوز أن يكون الضمير هو في قوله تعالى: {فَهُوَ لَكُمْ} عائدا إلى القرآن الكريم، الذي يدعوهم الرسول الكريم إلى الاستماع إليه، والنظر فيه، ثم الإيمان بما يدعوهم إليه من عقيدة وشريعة.. والقرآن وإن لم يجر له ذكر في الآية، فهو- في الحقيقة- المواجه للقوم، والمتحدث إليه.
وعلى هذا يكون ما في قوله تعالى: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} حرف نفى، بمعنى أننى لم أسألكم أجرا على هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم، فهذا الكتاب هو كتابكم، إنه لكم، هدى ورحمة من عند اللّه.. فكيف أطلب أجرا منكم على أمر هو لكم.؟ إنه لا أجر لى عندكم، إنما أجرى على اللّه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}! وقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (44: النحل).. فالكتاب منزل إلى الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام هو المتلقى لهذا الكتاب من ربه، وهو الحامل لهذه الأمانة، المطلوب منه أداؤها إلى أهلها، وهم الناس جميع.